نفي الولد باللعان
بقلم : المحامي أسامة عبد الكريم الحديثي
باستقراء حالات ثبوت النسب بين أحد وآخر نجدها أحوال ثلاثة: إما ثابت أي معلوم حصوله، وإما مَحُوز أي مشهور بين الناس أو جارٍ على ألسنتهم دون علم لهم بحصوله، وإما محكوم به في قضائيا.
فالثابت هو الذي حصل بإقرار أحدٍ بأن شخصًا آخر ابنٌ له وهذا لا يبطله شيء، لأن الإقرارَ بالنسب لا يرتد بالرد، فيثبت وينفذ على الكافة. وأما المَحُوز فهو نسبُ مَنْ يولد لذي فراشٍ صحيح، ولا يبطل نسبه لأبيه إلا باللعان فيه وبشروط. والمحكوم به هو الذي وقع فيه التداعي أو الادعاء فحُكِمَ لمَن ادعاه بمقتضى دِعوته، وهذا لا يبطله شيء؛ لأن القضاءَ بالنسب ينفذ على الكافة وقد استقر اجتهاد محكمة التمييز الاتحادية الموقرة في قرارها المرقم 1532 لسنة 2005 أنه "في دعاوى نفي النسب يجب إلحاق نسب الطفل إلى شخص معين بالذات وإلا كان مصير الدعوى الرد" ويعد هذا المبدأ متوافقا مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي أولت المحافظة على الأنساب اهتماما كبيرا، إذ أنه لحمة شرعية بين الأب وولده، تنتقل من السلف إلى الخلف، وحفظ الأنساب مقصدا من مقاصد الشريعة وتحقيقا لذلك حرم الإسلام جميع الحالات التي تؤدي إلى اختلاط الأنساب، فحرم الزنا، وكتم ما في الأرحام، وفرضَ العدة، وتغليب جانب الإثبات في ثبوت النسب، وتشوفُ الشريعة إلى إثبات النسب وتحريم جحده. ولكيلا تكون دعوى نفي النسب خاضعة لأهواء ومزاجيات الأزواج سارت محكمة التمييز الموقرة على هذا المبدأ وقررته، كما اعتمدته محاكم الأحوال الشخصية شرطا أساسيا في قبول أو رد دعاوى نفي النسب
ولكن في المقابل وتحقيقا لمقاصد عدم اختلاط الأنساب ذاتها وحرص الشريعة على إثبات النسب الحقيقي فهي لا ترقع على حساب الحق فلا ينبغي استلحاق الولد برجل يعلم علم اليقين أن هذا الولد ليس من صلبه، فقط لأنه لا يستطيع أن يلحقه بشخص آخر معينٍ بالذات، فليس من المنطق أن يضيق به العدل الذي وسع غيره. ولعل المخرج والفرج لمن كان هذا حاله يكمن في لجوئه إلى الملاعنة - مع أن المشرع العراقي لم ينظم الأحكام المتعلقة باللعان ولم يتطرق إلى الإجراءات المتعلقة بكيفية إقامة دعوى الملاعنة إلا أن لهذه الدعوى سندا قانونيا قررته المادة الأولى الفقرة الثانية من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 سنة 1959 التي أحالت إلى أحكام الشريعة الإسلامية المسائل التي لم ينص عليها هذا القانون- لأن نفي النسب بطريق اللعان لا يصح معه أن ينسب إلى غيره لأن الزوج الملاعن إذا كذب نفسه بعد اللعان زال أثر اللعان بالنسبة للولد وبهذا قالت الإمامية والحنفية، على أن طلب إجراء اللعان يجب أن يكون معتبرا ولا يكون كذلك إلا بشرطين:
الأول: أن يقدم طلب النفي فور علم الزوج بسبب اللعان وألا يتراخى في تقديمه وإلا كانت دعواه واجبة الرد. وهذا ما أيدته محكمة الأحوال الشخصية في شهربازار حيث نص قرارها ( أن الملاعنة طريقة تلقائية لإنهاء علاقة زوجية ونفي نسب أقرتها الشريعة الإسلامية بالنسبة للزوج الذي يرمي زوجته وليس له أربعة شهود لإثبات الادعاء أمام القضاء وأن ذلك لم يشرع لمثل هذه الحالة التي نحن بصددها ولا يمكن قبول التراخي في طلب إجرائه وأن إجرائه ليس مرهون برغبة وأهواء الزوج يطالب به متى يشاء لذلك قررت المحكمة الحكم برد دعوى المدعي مع تحميل المصاريف و رسوم أتعاب المحاماة) والقرار المذكور صدقته تمييزا هيئة الأحوال الشخصية لمحكمة التمييز في إقليم كردستان حيث جاء بقرارها (لدى التدقيق والمداولة وجد أن الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونية فقرر قبوله شكلا ولدى عطف النظر على الحكم المميز وجد انه صحيح وموافق للشرع والقانون...")
الثاني: ألا يسبق منه ما يدل على الإقرار بالولد فلو صدر منه ما يدل على الإقرار الصريح أو الضمني بالنسب فان النفي بعد ذلك لا يكون معتبرا لأن الإقرارَ بالنسب لا يرتد بالرد كما تقدم، وهذا الشرط محل اتفاق بين الفقهاء، وأيد ذلك قرار هيئة الأحوال الشخصية لمحكمة تمييز إقليم كوردستان المرقم 406 / الشخصية / 2012 (إن الطفلة مسجلة بموجب شهادة ولادة باسم المدعى وزوجته منذ عام 2007 لذا فان دعوى الملاعنة لا يبقى لها جدوى لحصول تناقض في الادعاء والتناقض مانع من سماع الدعوى، عليه قرر تصديق الحكمة المميز ورد الاعتراضات التمييزية).
ومع أن اللعان قد يعد فرجا ومخرجا للأزواج الذين يبتلون بذلك كما ثبت عن رسول الله (عليه السلام) لما نزلت آيات اللعان، أنه قال: (أبشر يا هلال – الرجل الذي قذف زوجته – قد جعل الله لك فرجا ومخرجا) إلا أنه من جانب أخر يُعد ردعا للرجال عن نفيهم أولادهم إلا عند اليقين أو قريب منه ولو اُكتفيَ بالبصمة الوراثية لاستساغ نفي النسب كثيرٌ من الأزواج.
