تجويع المدنيين عمدًا في قطاع غزة: جريمة حرب في ضوء القانون الدولي العام
بقلم: المدرس المساعد هدى عدنان العبادي
كلية القانون - جامعة المعقل
يمثل تجويع المدنيين في النزاعات المسلحة إحدى أكثر الانتهاكات جسامة للقانون الدولي الإنساني. ويأخذ هذا الانتهاك طابعًا خاصًا في سياق النزاع في قطاع غزة، إذ تشير تقارير أممية وحقوقية إلى فرض حصار خانق وسياسات ممنهجة تؤدي إلى حرمان المدنيين من الموارد الاساسية اللازمة للبقاء.
يسعى هذا المقال إلى تحليل مسألة تجويع المدنيين عمداً في غزة، من منظور القانون الدولي العام، ولا سيما القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، مع الاستناد إلى نصوص قانونية ومعايير المحاسبة الدولية.
أولاً: الإطار القانوني لحظر تجويع المدنيين:
يعد تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب جريمة حرب بموجب عدة مصادر قانونية دولية:
البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) تنص المادة 1/54 من البروتوكول على ما يلي: "يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال. ويُحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة." هذا الحظر مطلق، ويشمل كل ما يؤدي إلى حرمان السكان من الغذاء أو الماء أو الدواء، سواء عن طريق القصف أو الحصار أو المنع المتعمد لوصول المساعدات الإنسانية.
نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) تنص المادة 8(2)(ب)(xxv) على أن من بين جرائم الحرب: "تجويع المدنيين عمداً، بحرمانهم من الأعيان التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك عرقلة الإمدادات الإغاثية، على نحو يخالف اتفاقيات جنيف."
ثانياً: تطبيق القواعد على الحالة في غزة:
يشهد قطاع غزة، منذ عام 2007، حصاراً برياً وبحرياً وجويا تفرضه إسرائيل، ما أدى إلى أزمة إنسانية حادة. وتفاقم الوضع بشكل غير مسبوق منذ تصاعد العمليات العسكرية في أكتوبر 2023. وقد وثقت منظمات أممية مثل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وكذلك منظمات حقوقية ك(هيومن رايتس ووتش- والعفو الدولية)، منعاً ممنهجاً لوصول الإمدادات الأساسية من غذاء وماء ووقود وأدوية إلى أكثر من مليوني مدني في القطاع.
في بعض الحالات، تم استخدام الحصار وسيلة ضغط، وصرّح بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين علنا بأن "الهدف هو حرمان حماس من الدعم عبر خنق السكان"، مما يدعم فرضية وجود نية مقصودة لحرمان المدنيين من الموارد الاساسية.
وبالنظر إلى التوصيف القانوني أعلاه، فإن هذه الممارسات يمكن أن تُشكل جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي، بل قد ترقى في حالات معينة إلى جريمة ضد الإنسانية إذا كانت ضمن سياسة منهجية تستهدف السكان المدنيين.
ثالثا: المسؤولية الدولية:
من حيث المسؤولية الدولية، فإن الدولة التي تمارس سياسات تؤدي إلى تجويع المدنيين، أو تمتنع عن السماح بوصول المساعدات رغم قدرتها على ذلك، تتحمل مسؤولية دولية عن الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الإنساني. كما أن الأفراد المسؤولين عن هذه السياسات قد يُلاحقون جنائياً أمام المحكمة الجنائية الدولية، خصوصاً وأن فلسطين طرف في نظام روما الأساسي منذ عام 2015، مما يتيح للمحكمة اختصاصاً للنظر في الجرائم الواقعة على أراضيها.
الخاتمة
يشكل تجويع المدنيين في غزة، سواء عبر فرض الحصار أو عرقلة المساعدات، انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، ويستوفي الشروط القانونية اللازمة لاعتباره جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي. إن الاستمرار في هذه الممارسات دون مساءلة يعكس فشلا في إنفاذ قواعد العدالة الدولية، ويهدد مصداقية النظام القانوني الدولي ككل. ولذا، فإن التحقيقات والمساءلة الدولية ضرورية لضمان احترام القانون، ومنع الإفلات من العقاب.
